درس العنف ...
الثلاثاء أبريل 15, 2014 1:25 am
العنف
محاور الدرس1) أشكال العنف.
2) العنف في التاريخ.
3) العنف و المشروعیة.
تقديم المفھوم:
يبدو أن مظاھر العنف كثیرة، فھو يمارس بأشكال متنوعة. ھناك العنف الفزيائي من ذلك مثلا القتل و الاغتیال، لكن ھناك العنف
السیكولوجي أو الأخلاقي، مثل التعذيب عن طريق العزل. كما يوجد العنف الاقتصادي من خلال استغلال الطبقات أو البلدان
الضعیفة. مثلما، أن ھناك عنف الأنظمة التوتالیتارية ذو الأھداف السیاسیة و عنف العنصرية... إلخ و اللائحة طويلة إلى درجة
تدفع إلى إثارة السؤال عما إذا كان ھذا التعدد في صور العنف و أشكاله يعبر عن واقع ثابت أم أن استعمال مفھوم وحید لا
يعكس الإختلافات بین مظاھره لیس من الناحیة الكمیة فحسب. و إنما أيضا الجوھرية. إنه يوجد في كل مكان. و يمكن استعماله
كموضوع للبروباغندا و إلا كعنصر من عناصر تاكتیك للوصول إلى السلطة و المحافظة علیھا. إذا أدى العنف إلى تدمیر الوجود
برمته أو جزء منه، فإن العنف المنجز قد يكون أداة في خدمة مشروع يمكن ألا يكون عقلانیا، لكن شروط استعماله تبدو قابلة
للعقلنة.
يمكن أن نسلم بصفة أولیة أن العنف يوجد كلما كان ھناك إلحاق للأذى بالغیر بصفة جسدية أو نفسیة، سواء أخذنا الغیر
كفرد أم كجماعة أو مجموعة بشرية.
إذا اعتبرنا ھذا التعريف جیدا يجب أن نتصور العنف كواقعة تارخیة و يتحدد بإعتباره كمحرك أو دينامو للتاريخ من وجھة نظر
معینة، و يقوم على استخدام القوة بشكل غیر مشروع لسبب من الأسباب. فكیف يمكن مراقبة العنف و التحكم فیه إذا كان
يجب أن نبدأ بقبول حضوره الجذري في الإنسان؟
لقد أنتجت البشرية على مدى التاريخ آلیات و وسائل للحد من العنف حیث يعتبر الدين و الثقافة كعنصرين كابحین للعنف
بشكل معنوي و أخلاقي، على أن أھم تقنیة للتحكم في العنف تتمثل في التنظیم السیاسي للمجتمع ينبني فیه ھذا الأخیر في
صورة مؤسسات حديثة تجتث العنف و تجعل استخدامه حكرا على جھاز الدولة. و في ھذا السیاق تبرز الديموقراطیة كنظام
يتطلع إلى القضاء على العنف و تدبیر الخلافات و الصراعات السیاسیة بكیفیة حضارية تقوم على قوة القانون و لیس على قانون
القوة: فإلى أي حد نجحت الدولة الحديثة في القضاء على العنف؟ و ھل من حق الفرد أو الجماعة ممارسة العنف من أجل فرض
ما يعتقد أنه حق و عدل و خیر؟
المحور الأول:
أشكال العنف: ما طبیعة العنف؟
أفرز التاريخ البشري أشكالا متعددة من العنف، يمكن أن نمیز ضمنھما بین نوعین، ھما: العنف الجسدي و العنف الرمزي.
كلاھما يمارس بطرق و وسائل متعددة تتطور باستمرار بقدر تطور العلم و التقنیة. و لیس بديھیا أن تكون ھذه الأشكال دائما
ظاھرة، ذلك أن العنف يتحقق أيضا من خلال أشكال متخفیة مثلما ھو الأمر في << نقص التغذية>> كما يشیر إلى ذلك
الفیلسوف الفرنسي إيف میشو. يرى ھذا الأخیر أن إنتاج وسائل العنف يشمل << وسائل التسلیح الفردي كما يشمل وسائل
التخريب الجماعي>>.
و بما أن ھذه الوسائل أصبحت في متناول الكل: أفرادا، جماعات، دولا، فإن العنف يصیر أكثر فتكا. كما أنه أضحى أكثر
اتصالا بالإعلام، على اعتبار أن ھذا الأخیر يسخره عن طريق نشره أو السكوت عنه. و يخلص ھذا الفیلسوف إلى أن << تطبیق
التقدم التقني و العلمي على استعمال العنف و على كیفیة تدبیره يمكننا من فھم.
أ- الفعالیة المضاعفة التي تم التوصل إلیھا فیما يخص أشكال التحطیم و التخريب . فإبادة مجموعة بشرية ما. و إبادة
مزروعات، و تھديد حیاة الملايین من الناس تتطلب وسائل و تنظیما لم يسبق له مثیل.
ب- من حیث إن العنف أصبح قابلا للحساب و التحكم فإنه يمكن أن يحقق مردودية حیث أصبح من الممكن فرض السیطرة
بواسطة التعذيب و القمع و التھديد به>>. فھل معنى ھذا أن العنف ھو ما يشكل ماھیة الإنسان؟ ھل الإنسان كائن عنیف
بطبعه؟ ھل يوجد العنف في طبیعة الإنسان؟ ھذا السؤال يطرح نفسه بالنظرإلى قدم الظاھرة و استمرارھا عبر التاريخ
البشري، و ھو يتعلق بما إذا كان الإنسان شغوفا بالتدمیر؟ من يجیب الفیلسوف و عالم الإجتماع و المحلل النفساني الألماني
إيريك فروم عن ھذا السؤال بالقول:<< إن دراسة بعض الظواھر الإجتماعیة و الطقوس الشعائرية القديمة قد توحي بأن النزعة
التدمیرية لھا جدورھا النظرية في طبیعة الإنسان . إلا أن التحلیل المعمق لدلالات ھذه الظاھرة ، يثبت أن كل الممارسات التي
تؤدي إلى التدمیر لیست ناتجة بالضرورة عن < شغف بالتدمیر> . بالتالي فإن التدمیر لیس سلوكا ينتج بصفة عملیة عن غريزة
تدمیرية توجد في طبیعة الإنسان بقدر ما ينتج عن دوافع ونزعات لیس من الضروري أن تكون طبیعیة وذات علاقة بالممارسات
والشعائر الطقوسیة الدينیة . يترتب عن ذلك أن الطبیعة البشرية لیست ھي التي تولد العنف وإنما ھناك < طاقة تدمیرية كامنة
تغديھا بعض الظروف الخارجیة والأحداث المفاجئة ھي التي تدفع به إلى الظھور> .
وأما المقصود بالعنف الرمزي فھو مختلف أشكال العنف غیر الفیزيائي القائمة على الحاق الأذى بالغیر بواسطة الكلام أو
اللغة أو التربیة أو العنف الذھني ، وھو يقوم على جعل المتلقي يتقبل ھذا العنف <<اللطیف>> مثال ذلك العنف الرمزي الذي
تقوم به الإديولوجیا من حیث ھو عنف لطیف وغیر محسوس . يعرف عالم الإجتماع الفرنسي المعاصر بییر بورديو ھذا الشكل من
العنف بالقول أنه ھو ذلك الذي < يمارس على فاعل اجتماعي ما بموافقته > وبلغة أخرى < فإن الفاعلین الإجتماعیین يعرفون
الإكراھات المسلطة علیھم وھم حتى في الحالات التي يكنون فیھا خاضعین لحتمیات يساھمون في إنتاج المفعول الذي يمارس
علیھم نوعا من التحديد و الإكراه> و بالنظر إلى أن ھذا العنف رمزي فإنه يمارس بوسائل رمزية، أي التواصل و تلقین المعرفة.
المحور الثاني:
العنف في التاريخ: كیف يتولد العنف في التاريخ البشري؟
يتحدد وجود كل مجتمع بشري – حسب ماركس- بوجود صراع بین طبقتین اجتماعیتین، الأولى تمتلك وسائل الإنتاج و الأرض
و الثانیة لا تمتلكھا.
و ذلك منذ أقدم المجتمعات البشرية و أكثرھا بدائیة إلى المجتمعات الرأسمالیة المتطورة . و ھكذا ، فإن صراع الطبقات
الإجتماعیة يمكن أن يتخذ أشكالا فردية لا واعیة عند الأفراد أنفسھم، كما قد يتخذ طابع صراع نقابي أو سیاسي أو إيديولوجي
واضح المعالم.
كتب الفیلسوف الألماني كارل ماركس في ھذا السیاق السابق: <<نلاحظ أنه منذ العصور التاريخیة الأولى كان المجتمع
في كل مكان مقسما إلى طبقات متمايزة ... ففي روما القديمة كان ھناك سادة و فرسان، وأقنان و عبید، و في العصور
الوسطى كان ھناك سادة و شرفاء، و سادة الحرف، و الحرفیون العاديون و أقنان، كما أن ھناك داخل كل طبقة من ھذه الطبقات
سلم تراتبي خاص>> و قد أصبح الصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي بین البرجوازية و البرولیتاريا.
و بالمقابل يرى المفكر الفرنسي روني جرار أن أساس العنف ھو تنافس الرغبات ، و ذلك أن الرغبات الإنسانیة تخضع
لقانون المحاكاة،أي كرغبات في ما يرغب به الأخرون،<<كلما كانت رغبة الأخرين (في شيء ما) قوية و شديدة كانت رغبتي
أنا أيضا قوية و شديدة (فیه). ينتج عن ذلك احتمال اندلاع العنف.
وھكذا فإن الصراع الإنساني يتولد عن صراع أو تنافس بین الرغبات. و إذا صح أن الرغبات تتشكل و تتطور من خلال
المحاكاة، فإن العنف سیكون معديا من خلال انتشاره في الجماعة من فرد إلى أخر. و دواء ھذا المرض المعدي ھو القتل.
و ھذا الطرح يرجع بنا إلى تصور الفیلسوف الأنجلیزي الحديث طوماس ھوبز حول جذور العنف الذي يعتقد فیه أن مصدر ھذا
الاخیر ثلاثي، و يتمثل في: التنافس، الحذر ، الكبرياء، و ھي أسباب توجد في الطبیعة الإنسانیة. الأول يجعل الھجوم وسیلة
لتحقیق((المنفعة))، الثاني وسیلة ((للأمن)) و الثالث وسیلة لحماية ((السمعة)).
على أن العنف له صلة أيضا بالتقديس و بالحقیقة، فھو يشكل إلى جانبھما << الأركان الثلاثة لكل تراث مشكّل و مشكّل
للكینونة الجماعیة>> كما سماھا المفكر العربي محمد أركون الذي يشرح ھذه العلاقة على نحو ما يلي:<< الجماعة مستعدة
دوما للعنف من أجل الدفاع عن حقیقتھا المقدسة. الإنسان بحاجة إلى عنف، و تقديس، و إلى حقیقة لكي يعیش و لكي يجد له
معنى على الأرض. العنف مرتبط بالتقديس و التقديس مرتبط بالعنف و كلاھما مرتبطان بالحقیقة أو ما يعتقد أنه الحقیقة. و
الحقیقة مقدسة و تستحق بالنسبة لأصحابھا، أن يسفك من أجلھا دم >>.
المحور الثالث:
العنف و المشروعیة: ھل يمكن الإقرار بمشروعیة العنف من زاوية الحق و القانون و العدالة؟
يرى عالم الإجتماع الألماني ماكس فیبر أن جوھر السلطة ھو ممارسة العنف، و أنھا وحدھا تملك الحق و المشروعیة في
استعماله. من أين ينبع ھذا الحق أو المشروعیة؟ إنھما يرتدان إلى التعاقد الإجتماعي الذي بموجبه يتنازل الشعب للدولة عن
حق استعمال العنف على أساس نظام سیاسي حديث يتمیز بتقسیم السلط و مراقبتھا لبعضھا و بإجراء انتخبات بصورة منتظمة
من أجل تشكیل ھذه السلطة. و بالتالي يصبح العنف مرتبطا بالدولة الديموقراطیة الحديثة التي تضبط العنف و تحتكر
استعماله. و يستشھد م.فیبر في ھذا الصدد بقولة تروتسكي : << الدولة ھي كل جھاز(حكم) مؤسس على العنف>> و ھذه
ھي میزة عصرنا الحالي، بحیث أنه لا يحق لأي كان استعمال العنف إلا عندما تسمح الدولة بذلك . فھذه الأخیرة << تقوم على
أساس استعمال العنف المشروع >> و ستكون السیاسة ھي ((مجموع الجھود المبذولة من أجل المشاركة في السلطة أو
من أجل التأثیر على توزيع السلطة)).
لكن ھل استخدام العنف حق مشروع لكل أشكال الدولة بما فیھا الدولة الاستبدادية أم ھو حق فقط للدولة القائمة على
أساس ديموقراطي حديث؟
الإجابة عن ھذا السؤال بالقول: إن عنف الدولة لا يكون مشروعا إلا عندما تكون ھذه الدولة قائمة على أساس مشروع أي
على التمثیلیة، الإنتخابات، الحريات العامة، التعدديةالسیاسیة، و تداول السلط، و فصل السلطة. لكن يفترض ھنا ان العنف ھو
الوسیلة الوحیدة للقضاء على العنف أي مواجھة القوة بالقوة. و ضد ھذه الفكرة يطرح غاندي ((المفكر)) و الزعیم الھندي الشھیر
أن العنف رذيلة، و إذا كان العنف قانونا حیوانیا، فإن اللاعنف ھو القانون الذي يحكم البشر. و يعرف ھذا الأخیر على نحو ما يلي:
((الغیاب التام للإرادة السیئة تجاه كل ما يحیى)) إنسانا كان أم حیوانا أم نباتا، << ھو إرادة طیبة تجاه كل ما يحیى>>
الصداقة ستكون حلا لمشكلة العنف، إذا أصبحت عامة بین الأفراد و الأمم. و ذلك لیس فیه تخلّ عن الصراع الإنساني، بل على
العكس من ذلك فاللاعنف مناھض للشر لكن بوسائل الخیر. إن القوة الحقیقیة بھذا المعنى ھي قوة الروح التي تستطیع أن
تنجح في جعل اللاعنف ينتصر على العنف و السلام على الحرب و القوة الروحیة على القوة
الفزيائیة.
****************
***********
******
تقديم اخر
لم تشتھر الفلسفة بشيء أكثر من اشتھارھا بالسؤال, كونھ الممارسة الفكریة التي یقوم علیھا التفلسف أو جوھر الفكر الفلسفي.
ھذا السؤال یلقي بنا نحو موضوع قدیم متجدد في الفكر الفلسفي ھو العنف ووضعھ تحت منطق السؤال والنقد رغبة منا في معرفة أشكالھ وعلاقتھ بالتاریخ, وكشف
مدى مشروعیتھ.
ولتحقیق ھذه الرؤیة المعرفیة یجدر بنا تحقیق نوع من التراكم المعرفي والمنھجي حول ھذا المفھوم الذي ارتبط بوجود الإنسان.
یطرح ھذا الموضوع إشكالا مركزیا یتأطر في إشكالیة العنف ھذه الوضعیة المشكلة تتفرع عنھا مجموعة من الأسئلة المحوریة نجملھا فیما یلي :
- ما ھي طبیعة العنف ؟
- ماھي أشكالھ ومظاھره ؟
- كیف یتولد العنف في تاریخ البشریة ؟
- ھل یمكن الإقرار بمشروعیة العنف من زاویة الحق والقانون والعدالة ؟
قبل الإجابة عن ھذه التساؤلات المطروحة لابد من الإشارة إلى بعض الملاحظات التي تعتبر عتبات أساسیة لفھم الموضوع.
إن درس الفلسفة ھو درس تفكیري , ومن تم تتبلور ضرورة انجازه بطرق و أسالیب تطابق روحھ وماھیتھ, روح مادتھ الفلسفیة كفایاتھ التربویة, فمادام الإنتاج
المعرفي الفلسفي وأھداف تدریسھ یتسمان بالسمة التفكیریة فإنھ یصبح ضروریا تعلیم الفلسفة وتعلمھا بطرق وأسالیب تتحدد بتلك السمة نفسھا.
إذ ھناك إجماع لدى المشتغلین بالتعلیم الفلسفي على أن طریقة إنجاز درس في الفلسفة یقتضي تصور بیداغوجي شامل للعملیة التعلمیة الفلسفیة من طرح إشكالي
وتحلیل للنصوص المعتمدة في الكتاب المدرسي, ومناقشة ھذه النصوص وانتقادھا من ھذا المنطلق كان لزاما علینا تعریف موضوع العنف واستخراج مواقف وآراء الفلاسفة
من خلال الكتب المدرسیة الثلاث, زیادة على ذلك نقدم بعض التصورات النظریة والفلسفیة التي یطرحھا فلاسفة ومفكرون في تعاملھم مع ظاھرة العنف لأجل منح الدرس نوع
من المناقشة والتحلیل على أن ھذه العملیة تركناھا في نھایة كل محور.
فقد اتخذ العنف أشكالا متنوعة ومتعددة عبر تاریخ البشریة, حیث كان عنفا عضلیا تجسد في صراع الإنسان ضد الطبیعة. وغدا عنفا رمزیا
وثقافیا لھ عدة صور وطبائع.
ھذه الصورة توضح لنا تلازم العنف للإنسان عبر التاریخ, ومن ھنا تأتي صعوبة التخلص منھ أو تجاوزه رغم كل الأشواط و المراحل الردعیة التي عرفھا من أجل
ضبطھ و تقنینھ.
تعریف العنف :
نجد تعریف العنف من الناحیة اللغویة :عنف (العُنْف) بالضم ضد الرفق، تقول منھ: عَنُفَ علیھ بالضم (عُنْفاً)، و(عَنُفَ (بھ أیضاً و(التعنیف) التعییر واللوم (الرازى
666 ھ) ویتضح من التعریف اللغوي أن العنف لم یقتصر على الإیذاء الجسدي بل ھو شامل للإیذاء الجسدي واللفظي على حد سواء.
أما من الناحیة الإصطلاحیة : العنف ھو أي سلوك موجھ بھدف إیذاء شخص أو أشخاص آخرین لا یرغبون فى ذلك ویحاولونتفادیھ( 1). ولقد أسھب الباحثون في
تحدید مفھوم العنف كل من زاویتھ الخاصة.
و لعل أبرز تعریف أعطي للعنف, ھو تعریف باربرا ویتمر : " العنف خطاب أو فعل مؤذ أو مدمر یقوم بھ فرد أو جماعة ضد أخرى . ( 2)" بمعنى آخر العنف ھو كل
تعسف في استخدام القوة, أي الخروج عن الإطار المحدد والمتداول علیھ. و حیث یعرفھ جمیل صلیبا، في معجمھ الشھیر:"المعجم الفلسفي"، بكونھ فعل مضاد للرفق،
ومرادف للشدة والقسوة. والعنیف ھو المتصف بالعنف. فكل فعل یخالف طبیعة الشيء، ویكون مفروضاً علیھ، من خارج فھو، بمعنى ما، فعل عنیف. والعنیف ھو أیضاً القوي
الھوى الشدید الذي تتقھقر أمامھ الإرادة، وتزداد سورتھ »: الذي تشتد صورتھ بازدیاد الموانع التي تعترض سبیلھ كالریح العاصفة، والثورة الجارفة. و العنیف من المیول
« .حتى تجعلھ مسیطراً على جمیع جوانب النفي، والعنیف من الرجال ھو الذي لا یعامل غیره بالرفق، ولا تعرف الرحمة سبیلاً إلى قلبھ
وجملة القول إن العنف ھو استخدام القوة استخداماً غیر مشروع، أو غیر مطابق للقانون.
للوعي لدى أفراد معینین أو في جماعات ناقصة المجتمعیة. وبھذه الصفة یمكن » فإن العنف یظھر عندما یكون ثمة فقدان ،« قاموس علم الاجتماع » أما في معجم
في حین یرى بول فولكي في قاموسھ التربوي أن العنف ھو اللجوء غیر المشروع إلى القوة، سواء للدفاع عن حقوق الفرد، أو عن حقوق .« اللاعقلاني » وصفھ بالسلوك
.« كما أن العنف لا یتمظھر بحدة إلا في وجود الفرد/المراھق في مجموعة ما » الغیر
وھذا ما یدخل في نطاق العنف الرمزي…فأول .« فعل، أو عن كلمة عنیفة » أما أندري لالاند فقد ركز على تحدید مفھوم العنف في أحد جزئیاتھ الھامة، إنھ عبارة عن
سلوك عنیف ھو الذي یبتدئ بالكلام ثم ینتھي بالفعل. وھكذا فتحدیدات العنف تعددت واختلفت، إلا أن الجمیع یقرُّ على أنھ سلوك لا عقلاني، مؤذي، غیر متسامح.
إن كلمة عنف تستعمل في مجالات مختلفة، وعلى عدة مستویات متباینة، و بحسب استراتجیات تعریفیة متنوعة. إن العنف، في أول الأمر، وقبل كل شيء، ھو ظاھرة
یصعب تعریفھا بدقة. وإذا رجعنا إلى المراجع الفلسفیة و الأنثربولوجیة، تجد أن العنف صعب التعریف، ولا یوجد تعریف واحد یعمل بھ باعتباره كذلك. فإذا نحن بحثنا، على
سبیل المثال، في القوامیس، و ھي جزء من الحیاة الاجتماعیة، سنجد أن كلمة "عنف" تستعمل في حقول دلالیة واسعة: "العنف" ضد الرفق؛ و نقول الأخذ بالعنف حین یأخذ
المرء الشيء بالعنف؛ وتستعمل الكلمة بمعنى الإكراه؛ وھناك العنفوان بمعنى الشباب والقوة الخ، كما في الصحاح في اللغة للجوھري. ویأتي صاحب تاج العروس بنفس
الدلالات، مستشھدا بالجوھري وغیره، ویزید علیھا الشدة و "العنفة"، و اعتناف الأمر بإنكاره. وھذه مجرد أمثلة فقط حیث یقترن العنف بالصرامة والألم والإیلام والزجر أو
القمع، مثلا في الوعظ والتربیة كما عند أبي حامد الغزالي في الإحیاء؛ أو الإنھاك واستنفاذ القوة (في حالة الفرار من العدو حیث یجوز استنفاذ قوة الفرس)؛ واستعمال العنف
( (من أجل النجاة من الخطر (الرازي). ( 3
وفي ھذه الحالة تقترن الكلمة بالخطر والموت والأوجاع. وقد استعمل الرازي أیضا كلمة عنف للحدیث عن الضغط والأوجاع التي یسببھا خروج الجنین أو (المولود) من.
( الرحم. ( 4
وإذا كان الجوھري و الزبیدي یستخدمان كلمتا عنف ورفق في سیاق الكلام عن ركوب الخیل، أي في سیاق ترویضھا وتمرینھا على الخدمة والطاعة، فإن بعض فلاسفة
المسلمین یستعملونھا في مجال العلاقات بین الناس، وخاصة في مجالي الحرب والسیاسة. فالرازي یذھب، مرة أخرى، إلى أن اللجوء إلى العنف یكون عادلا بصفة عامة حین
.( یكون المرء أو الجماعة مھددة بخطر؛ ویذھب ابن سینا إلى أن للعنف معنى إیجابیا حین یستعملھ الحاكم للحد من انتشار الفساد في الرعیة ( 5
أما استعمال العنف في الجھاد سواء في الفتوحات أو في الدفاع عن الأمة ضد عدو خارجي أو داخلي فھو مشروع عند علماء الإسلام. و من المعلوم، أخیرا، أن استعمال
العنف وارد في التربیة، وھو أیضا وارد ومطلوب في التربیة الصوفیة (كجھاد ضد النفس "الأمّارة بالسوء").
كیفما كان الحال، فإننا نرى من خلال ھذه الأمثلة أن كلمة عنف و ما یدور حولھا من مرادفات ترتبط بكل مجالات الحیاة، سواء الفردیة أو الجماعیة، العائلیة أو القبلیة
أو السیاسیة أو الدینیة.
بالفرنسیة أو بالإنجلیزیة أو (Violence) إن تعدد المجالات الدلالیة للمفردات التي تترجم "عنف" شيء معروف حتى بالنسبة للغات أخرى، فكلمة
بالألمانیة لھا معاني یتعذر حصرھا في معنى واحد، كما لاحظ ذلك، عن حق، بعض الباحثین (فرنسواز إریتي وإتیان بالیبار، على سبیل المثال). فنحن أمام (GEWALT)
عدة تعریفات تختلف بحسب اختلاف استخداماتھا و مقارباتھا المؤطرة (بكسر الراء). و ھو ما یجعلنا نقول، إننا أمام عدة مقاربات للعنف و لسنا أمام مقاربة واحدة و
وحیدة. و كل مقاربة تعكس إدراكا معینا و أسلوبا في التشخیص و الاقتراح.
فھناك مقاربة تحدد العنف في استخدام وسائل الضغط التي تحد أو تعدم إمكانیة الغیر في الاختیار، بل وتعدم حتى إمكانیتھ في الھروب، أو في الانعتاق، أو في رفض
الوضعیة التي تفرض علیھ.
وإذا كان مفھوم العنف قد عرف اختلافا و تمایزا على المستوى الإشكالي, فإن نفس الشيء انعكس على مواقف وتصورات الفلاسفة و المفكرین الاجتماعیین وغیرھم.
ھكذا سنقف على كل موقف وتصور كل فیلسوف من خلال الكتب المدرسیة, وذلك من خلال المحاور الثلاث الأساسیة:
1 – أشكال ومظاھر العنف.
2 – العنف في التاریخ.
3 – مشروعیة العنف.
ففیما یخص المحور الأول نجد المواقف الآتیة :
یتناول ایف میشو أشكال العنف من حیث درجاتھ وتطوره عبر التاریخ, حیث یعرض إشكالا متعددة من العنف من نقص التغذیة وھو أخف أشكال العنف إلى الإعدام الأكثر
ضراوة.
وتعرض كذلك لبعض تمظھراتھ المختلفة كالعنصریة والاضطھاد والحروب الاستعماریة والأنظمة العسكریة والبولیسیة.
ویوضح أن تكنولوجیا الوسائل لا تقتصر من تطورھا على التسلیح الفردي و لكن على وسائل التخریب الجماعي أیضا التي تتداول بین الدول.
كما یشیر إلى أن العنف ملازم بالإعلام الذي یعمل على نشره أو تھذیبھ أو السكوت عنھا كالإرھاب والتھدیدات الدبلوماسیة.
في حین نرى أن بییربوردیو یحدد أشكال العنف في العنف غیر المادي والعنف غیر المرئي, الصامت والسري من إلحاق الأذى عبر وسائل عدة كاللغة والتربیة
والإیدیولوجیا.
والعنف الرمزي وھوعنف یمارس على فئة أو أفراد بالاتفاق والتواطؤ وبالتالي فھو سلسلة من الإكراھات التي تمارس عبر قنوات عدة تصبح فیھا ھذه الممارسة
العنیفة شرعیة من الناحیة الاجتماعیة وأي نشاط تربوي ھو موضوعیا نوع من العنف الرمزي وذلك بوصفھ عنف لطیف وغیر محسوس.(الكتاب المدرسي المناھج).
ویعرض لورینتز موقفین فیما یخص تفسیر النزعة العدوانیة لدى الإنسان فالموقف الأول یقوم على فكرة أن العدوانیة الإنسانیة ھي فطریة لارتباط الإنسان بالنوع
الحیواني واشتراكھ معھ في الصفة العدوانیة من أجل الحفاظ على البقاء. أما الموقف الثاني فیبین أن النزعة العدوانیة عنھ الإنسان ھي نزعة مكتسبة أي أنھ یكتسبھا من العالم
الخارجي ومن احتكاكھ واندماجھ مع الآخرین.
ویؤكد لورینتز أن عدوانیة الإنسان ھي مكتسبة وفي نفس الوقت فطریة لارتباط الإنسان بالحیوان.
من أفعال القوة التي تسعى إلى إرغام الخصم على الخضوع والسیطرة une acte في حین یقوم لنا فون كلوزفیتش مفھوم جدید لمعنى الحرب,فالحرب ھي فعل
والھیمنة علیھ, لھذا فإنھا توظف كل العلوم والصنائع في إنتاج وسائل وآلیات حربیة تكرس القوة كفعل عنیف.
ففكرة كلوزفیتش ھي أن الحرب فعل مؤذ وعنیف یستخدم القوة كذریعة للسیطرة والھیمنة, إلى جانب ھذا یشیر إلى أن الحروب التي تعرفھا الشعوب المتحضرة ھي أقل
عنفا من الحروب التي عرفتھا الشعوب المتوحشة, وھذا راجع إلى حالة الاجتماعیة والتطورات التي عرفتھا ھذه المجتمعات.(الكتاب المدرسي الرحاب).
یعالج ایریك فروم أشكال العنف ضمن تصور فلسفي وسوسیولوجي معاصر, وذلك من خلال استحضار مجموعة من الظواھر الاجتماعیة وبعض الشعائر الدینیة لدى
مجموعة من الشعوب القدیمة من أجل تبیان أن العرض الأساس من ھذه الظواھر الاجتماعیة لیس ھدفھا التدمیر.
لأنھا لا تحمل أي نزعة تدمیریة بقدر ما تجسد رغبة فرد أو جماعة في العیش وتأكید وحدتھا.
في حین یعرض فروید تصوره لمسألة العنف وشكلھا الأساسي في إعطاء الإنسان أھمیة كبیرة وذلك في بعده اللاوعي والمتمثل في الغرائز والأھواء و المیولات التي
یرغب فیھا ھذا الإنسان.
ویقسم فروید النزوع العدواني لدى الإنسان إلى قسمین : الأول نزوع فردي یتمثل في الغرائز الفطریة والطبیعیة لدى الإنسان, والثاني نزوع عدواني جماعي یتجسد في
الھجرات والغزوات, مما یخلق تھدیدا یؤدي إلى الدمار و الانھیار.(الكتاب المدرسي المنار). وھكذا یتضح لنا بأن العنف تتنوع أشكالھ من العدوان إلى الاستغلال والاستعمار و
من الاشغال المتعبة إلى الاقتتال الفردي والجماعي والغزوات والھجرات. لكن تبقى العدوانیة والحرب ھما أبرز ھذه الأشكال.
لكن مع التطور الذي عرفتھ المجتمعات ظھرت نظریات أخرى تفسر العنف خصوصا بعد الحرب العالمیة الثانیة.
النظریة الأولى تقرن العنف بالأخذ. فالعنف حسبھا شيء طبیعي یفسر بحاجة الإنسان. و كانت الحاجات الأولى التي نظر لھا المنظرون ھي الحاجة للطعام، والحاجة
الثانیة ھي حاجة الجنس، و الحاجة الثالثة ھي الحاجة للاطمئنان. والعنف، حسب ھذه النظریة، ھو منع الغیر من تلبیة حاجاتھ وسد الطریق أمامھ. و كان العنف في مظھره
المعروف، أي الحرب، یصنف ویفھم كنوع من الصید، وكأنھ تطور لأحد أشكال الصید. فیصبح الدافع إلى العنف ھو الدافع البیولوجي، حتى تمنع الأخر من الأخذ: أخذ الغذاء أو
النساء. فیصبح التنظیر للعنف قائما على أساس بیولوجي. لكن مشكل ھذه النظریة ھو أن الدافع البیولوجي لا یمكنھ أن یفسر الحرب، ولا یمكن أن یفسر الأخذ، سواء بالنسبة
للطعام أو بالنسبة للجنس. فإذا كان الأخذ من أجل الجنس فقط، فإنھ لا یفسر لنا تعدد الزوجات أو الحظایا. فھناك عامل آخر یجب البحث عنھ. فلماذا یتعدى الأخذ من أجل
الجنس القدرة التناسلیة أحیانا؟ فیتعدى عدد الزوجات أو الحظایا العدد العادي لیحصل التناسل، وھو زوجة أو زوجتین أو حظیتن، ولكن لیست عشرین من الحظایا.
فالمعروف في تلك المجتمعات أن تعدد الحظایا والزوجات أصبحت لھ معاني ودلالات أخرى غیر تلك الدلالات والمعاني التناسلیة. كما أن الأخذ من أجل الغذاء لا یفسر العطاء.
فإذا كان العنف (الحرب) یفسر الأخذ، فھذا لا یفسر أنك تتحارب حتى تكدس الموارد الغذائیة ثم تعطي ! و لا یمكن فھم ھذا انطلاقا من نظریة لتلبیة الحاجیات، بل یظھر ھذا
السلوك كاختیار مناقض للمبدأ الذي یحكمھ. فالنظریة البیولوجیة لا تفسر ھذه العلاقات. وكان (لوروا كورھان) ھو ممثل ھذه النظریة حتى وفاتھ. و لا تنفي محدودیة ھذه
النظریة الفائدة الكبیرة التي كانت لھا، لأنھا ساعدت، بقوة، على تصنیف الإنسان ككائن لھ حاجیات یحاول أن یلبیھا بالشغل، أو بالحرب، أو باختراع الآلات. و كان ھذا مھما،
.على كل المستویات. وطبعا، یمكن لھذا الانتقاد الذي انتقدتھ، أن یصدق على كل التوجھات الانتفاعیة، بما فیھا الانتفاعیة الاقتصادیة في تفسیر العنف
أما النظریة الثانیة، فھي نظریة الأخذ والعطاء، أو نظریة التبادل. وھي نظریة قدیمة. فقدیما قیل ولا یزال یقال: إذا حضرت التجارة غابت الحرب. و قد عرفت ھذه
النظریة إغناءا كبیرا مع (كلود لیفي ستروس). و تتمیز نظریة التبادل باستحضار بعد أساسي، كان غائبا في النظریة الأولى. فمشكلة (لوروا كورھان) والبیولوجیین ھي أنھم
لا یعتبرون ولا یرون، أن ظاھرة الأخذ ھي دائما ظاھرة مقننة، وكونھا كذلك یعني أنھا محكومة بتقنین اجتماعي، ولیس فقط بمبدأ تلبیة الحاجة، سواء كانت حاجة إلى الغذاء
أو إلى النساء، وخصوصا في الحالة الثانیة. بنى (لیفي ستروس) نظریتھ للتبادل على مبدأ منع الزواج من المقربات /منع زواج المحارم. وھذا المبدأ، في نظره مبدأ إیجابي
لأنھ حین یمنع الشخص من الزواج من أختھ،مثلا، فإنھ یدفعھ إلى تزویجھا بآخر. وبالتالي یضمن ھذا المبدأ التبادل، ویدفع في اتجاھھ. فإذا كان المجتمع مبنیا على التبادل،
فإن ھذا الأخیر یصبح ھو أساس التجمعات البشریة. غیر أن المشكل الأساسي ھو أن نظریة التبادل لا تكفي لتفسیر ما یجري في تلك المجتمعات، لأنھا تحاول أن تبني أسس
المجتمع على القاعدة، فقط. علما بأنھ عندما تتأمل التبادل تجد أن التبادل نفسھ یأخذ أوجھا أخرى، بما فیھا الحرب. فمثلا، من أجل الحرب یتم التفكیر في تبادل الأزواج بین
مجموعات قبلیة كبیرة. فیصبح التبادل نفسھ وسیلة من وسائل الإعداد للحرب، یصبح إستراتیجیة حربیة. فقانونیا وشرعیا، القاعدة ھي المبدأ وھي الدافعة إلى التبادل، لكنھا
عملیا واجتماعیا، تفتح عدة مجالات، بما فیھا مجالات التھیيء للحرب و ممارسة العنف. فقانونیا، یمكن أن یقال: قانونیا، لابد من منع الزواج من المقربات حتى یكون
التبادل ممكنا، لكن مقابل ھذا، یمكن أن تقول، عندما كان التبادل ممكنا، أصبح من الممكن [أیضا] سوسیولوجیا و تاریخیا، أن تقوم بتبادل تحالفي من أجل الحرب. فالقاعدة
تفتح التبادل، لكن التبادل نفسھ لیس القاعدة الوحیدة للسیرورة التاریخیة والسوسیولوجیة للمجتمعات. فالتبادل كقاعدة، یمكن، أیضا، تاریخا و سوسیولوجیا، من أشیاء
تتعدى القاعدة؛ فالقاعدة تمكن من التبادل؛ والتبادل یمكن من الحرب. لھذا، یمكن القول: إن الشيء كقانون یجعل التبادل ممكنا، إذا رأیتھ من زاویة الجدلیة التاریخیة یعطي
عكسھ، یعطي الحرب بدلا من السلم، وتصبح الحرب والسلم شیئان ممكنان انطلاقا من قاعدة واحدة. و تكون الرسالة ھي كالتالي: إذا أردت أن تتفتح و تغتني و تضمن
التبادل، فلابد من أن تكبح رغبتك وشھوتك، و أن تحد من إرادتك. و ھذا، یرجعنا إلى كلام آخر، ھو أن التبادل باعتباره كبحا للشھوة، یمكن من بناء المجتمع والثقافة، و لكنھ
لا یضمن السلم. فالكبح یعطي إمكانیة بناء الثقافة، ولكنھ بناء یمكن أن یؤدي إلى عكس ما حددتھ القاعدة. وھذه ھي الجدلیة المفتوحة التي تحدثت عنھا. فإذن، لا یمكن
للعنف أن یعرف إلا بعكسھ، انطلاقا من خطوط و حدود فاصلة، تعمل أیضا، كنقط اتصال تحرسھا قواعد. لا یمكن للعنف أن یعرف إلا كوضعیة نسبیة مقارنة بالسلم إذا أخذناه،
مثلا بوجھ من وجوھھ المركزیة (الحرب). ونفس الشيء یصدق على السلم. فیصبحان (العنف والسلم) مخدومین ببعضھما البعض في طبیعتھما و ھویتھما. كل مفھوم مخدوم
بضده؛ و ھذه ھي الجدلیة المفتوحة التي تجعلك تعرّف الشيء بضده، و لكن انطلاقا من عدم الإقرار بوجود حدود قبلیة و فاصلة بینھما (الشيء و ضده)، إذ علیك أن تعترف
بأن ذلك التعریف, ھو تعریف قاعدي للعلاقة الجامعة بین الحدین. و عندما تفتح ذلك التعریف على التكوینات الاجتماعیة التي جعلتھ ممكنا، فلا محالة أنك تعترف، في الأخیر،
أن السلم والعنف وجھان لبعضھما البعض. فكل واحد منھما یحمل الآخر في أحشائھ. لھذا یمكنك أن تفسر كیف أن وصفك للآخر بالعنیف فیھ عنف، أیضا، بل أكثر من ھذا،
یمكن القول إن جدلیة العنف لا تقوم فقط على ھذه التمییزات بین العنف و السلم كتبادل، بل تقوم على تمفصل آخر لا یقل أھمیة في تحدید ملامح ھذه الجدلیة و ھو تمفصل
عنف داخلي/ عنف خارجي، أي عنف یتحدد انطلاقا من الدینامیة الداخلیة للجماعة، و آخر یتحدد انطلاقا من علاقة الجماعة بجماعة أخرى...
إضافة لھذین النظریتین ذو الرؤیة الأنثروبولوجیة للعنف , فإن ھناك نظریات أخرى منذ العھد الیوناني إلى الآن.
أطروحة ھیراقلیط :
یرى ھیراقلیط أن العنف ضروري للعالم بل إنھ أصل العالم و مبدأه، فلا شیئ یكون أو یولد بدون عنف ، فھو محرك العالم و محرك صیرورتھ ، فلكي یولد أي شیئ یجب أن
یحذف شیئ آخر و یرفض ویقصى، یقول ھیراقلیط" الحرب أب كل شیئ و ملك كل الأشیاء " الشدرة 53 . وبھذا المعنى فالعنف منتج ومخصب و لیس مدمرا و غیر منتج، إنھ
بھذا المعنى الموت الذي یحمل في أحشائھ الحیاة .
( لكن التصور الھیراقلیطي یتمیز بكونھ ینسحب على الوجود برمتھ ولا یختص بالإنسان وحده ،تصور ینظر إلى العنف موضوعیا ولیس ذاتیا.( 6
أطروحة فروید:
أما بالنسبة لفروید یطرح العنف بصفتھ الذاتیة، أي كسلوك إنساني وبالأساس كرغبة تدمیریة أو "لیبیدو سالب " یقول لاكان بھذا الخصوص " اللیبیدو السالب الذي یعید
الإشعاع من جدید للمفھوم الھیراقلیطي للاتوافق ". یؤكد فروید على أن العنف و التدمیر نزعة طبیعیة في الإنسان تتعایش مع نزعة مناقضة لھا یسمیھا نزعة الإیروس أو
نزعة الحیاة التي تدفع إلى الإبداع و الخلق لدى الإنسان .ھده العدوانیة أولیة وأصیلة لدى الإنسان و غیر محولة ثقافیا لدى الإنسان " إنھا لیست دلك العدوان الذي یصدر كرد
فعل عندما لا تتحقق رغباتنا ونحس بالإحباط جراء دلك . بل ھي نزعة تلقائیة لكل كائن عضوي نحو المستوى صفر أي نحو الموت، إذن فالكائن الحي مجھز بشكل فطري
بالعنف.
لكن ھدا التفسیر غیر كاف، فالعنف وإن كان طبیعیا في الإنسان، و یمكن تفسیره عقلانیا فھل یمكن تبریره عقلانیا في نفس الآن ؟ بمعنى آخر ھل ھو عقلاني؟ ھل ھو صادر
( عن العقل ؟ كما أننا یمكن أن نطرح السؤال ھل ھو فعلا فطري و أساسي أم أنھ تابع لسبب آخر ھو مصدره ؟ إنھ ثانوي بالنسبة لسبب أساسي .( 7
أطروحة إیریك فروم:
العنف لیس معطى طبیعي أساسي ،فعلم الأعصاب وعلم النفس الحیواني یبینان ھده الحقیقة كما یؤكد على دلك عالم النفس الأمریكي( فروم ) ، إذ أن الحیوانات لا تكون عنیفة
إلا في حالات معینة :
أ- عندما تعمل على الحفاظ على حیاتھا أو للصراع من أجل الغداء. وفي ھده الحالة یكون العنف وسیلة فقط و لیس غایة .
ب - في حالة تعرضھا للھجوم مع انعدام إمكانیة الھرب بالنسبة إلیھا . وبھذا فالعنف ھنا حالة دفاعیة من أجل الحفاظ على الحیاة . وبدلك فالعنف في ھده الحالة نتیجة و لیس
سببا ، ثانویا و لیس رئیسیا.
ت - العنف بین نفس النوع لا یؤدي إلى قتل الخصم ،ولیس ھناك تعذیب أو تدمیر ،بل فقط تھدید یلعب دور التحذیر فقط .
( فالعنف في كل ھاتھ الحالات وسیلة ولیس ھدفا ولیست لھ أیة قیمة في ذاتھ.( 8
أطروحة ستانلي میلغرام:
كما استنتج عالم النفس الأمریكي ستانلي میلغرام .من خلال تجربتھ الشھیرة حول (حدود الخضوع للسلطة) " على الرغم من أن النزعات العدوانیة طبیعیة لدى الإنسان، فلم
تكن لھا أیة علاقة بسلوك المشتركین في التجربة ،بنفس الشكل الذي یحدد السلوك العنیف للجندي في الحرب، أو ربابنة الطائرات العسكریة الذین یطلقون وابلا من قنابل
النابالم على القرى الفیتنامیة... فالجندي یقتل بدافع الواجب: واجب الخضوع للأوامر العسكریة.فتعذیب الضحایا لا یجد مبرره في النزوعات العدوانیة لدى الجنود ، ولكن من
( لأنھم مندمجون في بنیة اجتماعیة ھم عاجزون عن الإستقلال عنھا،متورطون فیھا بشكل یتجاوز قدرتھم على الإنفلات منھا ".( 9
كما أن العنف في ھده الحالة مبرر لدى من یقوم بھ ، بل محتاج إلى تبریره : سواءا تحت رایة حب الوطن، الواجب، النتائج في حالة رفض القیام بما یطلب منھ...إلخ .
وقد بینت تجربة (حدود الخضوع للسلطة) أن الأشخاص الدین ینتمون لأصول اجتماعیة محضوضة و الدین یحضون باعتراف اجتماعي معرفي ( دبلومات جامعیة مثلا...)
رفضوا الخضوع لأوامر القائمین على التجربة وإعطاء الأوامر لإطلاق الشحنات الكھربائیة القویة والتي قد تؤدي إلى الموت، فقد كانت لھم الإمكانیات و بالتالي القدرة على
الرفض، أي كانت لھم القدرة على مواجھة البنیة الإجتماعیة الضاغطة.
ما تعلمنا إیاه تجربة "میلغرام" , ھو أن الظروف التاریخیة و الإجتماعیة محدد أساسي لظھور العنف ،وبالتالي فیكفي نزع جذور العنف الإجتماعیة لكي نجتث العنف من
أساسھ ، مما یطرح السؤال : كیف نقضي على العنف؟ وما ھي الوسائل للقضاء على العنف ؟ وھل یمكن أن نلجأ للعنف كوسیلة لاجتثاث العنف وتحییده ؟ بمعنى آخر ھل یمكن
( أن نستعمل العنف للوصول إلى أھداف یحددھا العقل ذاتھ، ؟ أن یكون العنف في خدمة العقل. أي في خدمة إقامة عالم أكثر إنسانیة ،وأكثر عدالة .( 10
أما المحور الثاني فإن تصورات المفكرین لعلاقة العنف بالتاریخ جاءت بالشكل الأتي:
تبرز فكرة العنف عنھ كارل ماركس في الصراع الطبقي عبر تضارب مصالح طبقة بورجوازیة مالكة لوسائل الإنتاج, وطبقة أخرى مھیمن علیھا لا تملك سوى جھدھا
العضلي.
ویرى ماركس أن ھاتین الطبقتین كانت في صراع دائم تقضي إحداھما على الأخرى أو ینتفیان معا. وأنھ منذ العصور القدیمة كان المجتمع مقسم إلى طبقات متمایزة
حسب سلم تراتیبي, وحتى المجتمع البورجوازي نفسھ لم یأتي بالجدید وإنما خلق ظروفا جدیدة للاضطھاد. أما روني جیرار فیرجع نشأة المجتمعات إلى صراع الرغبات
وتصادمھا, وبالتحول من حالة الصراع والعنف إلى حالة السلام یكون المجتمع قدم بآلیة التضحیة (كبش الفداء) الذي حول الوسیلة لمنع تصاعد العنف الذي سببھ التنافس
المتسم بالتقلید.(الكتاب المدرسي المباھج).
یعرض فریدریك انجلز دور العنف في التاریخ البشري, ویرى أنھ لیس ھو محرك التاریخ ویقدم لنا العلاقة التي تجمع بین العنف الاقتصادي والعنف السیاسي, إذ یرى أن
ھناك عنف اقتصادي وعنف سیاسي, ویؤكد أن العنف الاقتصادي ھو الذي یحدد العنف السیاسي لأنھ ھو الذي یؤدي إلى تطور المجتمع.
ففریدریك انجلز یؤكد ارتباط العنف بتطور النظام الاجتماعي والاقتصادي.
یقوم التصور الفرویدي لمسألة العنف على النظرة التالیة, أن الحق ما ھو إلا نتاج للعنف, فإذا كان ینظر إلى الحق والعنف على أنھما متعارضین, فإن النظرة التاریخیة
التحلیلیة مع فروید تؤكد أن الحق نشأ مع العنف وبأنھما غر متناقضین فالحق أو القانون حسب فروید ضرورة أساسیة تصحح العلاقات بین الناس, فالناس یتحدون فیما
بینھم من أجل التعایش و التساكن (الكتاب المدرسي الرحاب).
یرجع ھوبز العنف في الطبیعة الإنسانیة إلى ثلاثة مصادر ھي التنافس,الكبریاء, ثم الحذر كوسائل یلجأ إلیھا الإنسان قصد تحقیق المصلحة والمنفعة.
ویخلص ھوبز إلى أن لھذه المصادر غایات تنشدھا, فغایة التنافس ھي إرادة السیادة على الآخرین, وأن غایة البحث عن الأمن ھو الدفاع عن مكب السیادة, وغایة
الكبریاء ھو تجنب الاحتقار.
ویتجاوز ھوبز النظرة التقلیدیة للحرب والتي یكون القتال فیھا فعلیا إذ تظھر حرب خفیة تتوارى عنھ وجود السلطة وبالتالي فالإنسان في حالة استعداد دائم للحرب.
ینطلق فارنییھ وتولرا من تصور انتروبولوجي نقدي لأشكال النزعات سواء أكانت داخلیة أو خارجیة على أنھا تخضع لتقنین من حیث الأھداف والوسائل, والثانیة
یستباح فیھا كل شيء على أنھ قول قاصر, إذ نتجت الشواھد التاریخیة تؤكد ھذا التصور (الحروب الداخلیة الأوروبیة).
وینتھي فارنیھ في تحلیل لإشكالیة العنف إلى أن النزعات المسلحة لیست ھدفا بل ھي نتاج للتوتر الاجتماعي .(الكتاب المدرسي المنار).
یتضح لنا أن العنف لعب دورا أساسیا في التاریخ, إن على مستوى تنظیم العلاقات الاجتماعیة وتوزیع الخیرات وتحدید وضبط الأدوار حیث أن أثر العنف یظھر بكل
وضوح على مستوى التطور الاقتصادي, وأیضا في نشأة فكرة الحق. ومن ھذا فإننا سنقوم بالوقوف على كل من تنظیرات روني جیرار وتوماس ھوبز و كارل ماكس لمعرفة
علاقة العنف بالتاریخ البشري.
ترتكز نظریة روني جیرارعلى حدس رئیسي: وھو أن الرغبات الإنسانیة ھي رغبات تخضع لقانون المحاكاة، أي أنھا رغبات محاكاتیة، أو بمعنى آخر أنھا رغبات
تتجھ نحو موضوعات یرغب فیھا الناس الآخرون أیضا. وكلما كانت رغبة الآخرین قویة وشدیدة كانت رغبة الأنا أیضا قویة وشدیدة. وفي خضم ھذا التنازع یمكن أن یأتي
حین تكون فیھ رغبة الآخر في الشيء أھم بالنسبة من الموضوع المرغوب فیھ نفسھ: وعندئذ یصبح التنافس صراعا شخصیا وتتنامى احتمالات اندلاع عنف مفتوح. إن
الصراع الإنساني ھو بالأساس نتاج للتنافس. لدى الحیوانات نجد أن الصراعات الناتجة عن التنافس، كالتنافس الجنسي مثلا، تجد حلھا، على وجھ العموم، عن طریق فرض
علاقات سیطرة: فالحیوان الأضعف یخضع للحیوان الأقوى، وینتج عن ذلك استتباب نظام تراتبي مستقر إلى حد ما. أما لدى بني الإنسان فالأمر لا یسیر بالطریقة نفسھا: ذلك
أن الناس لا یخضعون تلقائیا. بل یقومون بأعمال عنف لا تنتھي داخل النوع. وھكذا یمارسون الانتقام المؤجل ویجعلون منھ، عبر التقلید والمحاكاة، قضیة الجماعة. إن العنف
والتي یمكن أن تؤدي إلى قیام مذابح جماعیة. وإذا ما نظرنا إلى ھذه « أزمة المحاكاة » الإنساني إذن عنف معدي: فھو ینتشر في الجماعة من فرد لفرد. وھذا ما یسمى
یفترضون الیوم أن العدید paléoanthropologues Les المسألة من وجھة نظر التطور، فإنھا لن تبدو سمة ملائمة أو جیدة. بالفعل فعلماء المستحاثات البشریة
من المجموعات الإنسانیة أو القبل إنسانیة ربما تكون قد اختفت فقط نتیجة للعنف الممارس بین بني البشر. وربما كانت استمراریة الجنس البشري وبقاءه مھددین لو لم تكن
ھناك میكانیزمات وإوالیات لإیقاف دورة الانتقام أو الأزمة العنفیة.
وتنظیرات روني جیرار للعنف ثلاثة جوانب :
الجانب الأول ھو التنظیر لدور العنف في التاریخ وفي سیرورة المجتمعات. وإذا أردنا أن نلطف العبارة فلنقل "سیرورات "، لأنھ یصعب على أي كان أن یرصد في
نظریة عامة دور العنف تاریخیا وفي المجتمعات الإنسانیة. وعلى كل حال، ركز روني جیرار، في ھذا المجال أبحاثھ، على ما ھو معروف ومؤرخ لھ في مجتمعات عتیقة،
وخصوصا في الحضارة الیونانیة. وھنا تبقى أمثلتھ محدودة بالمجال الحضاري المرجعي لنظریتھ، أما بالنسبة للمجتمعات الأخرى البعیدة عن ھذا المجال الحضاري و
المختلفة عنھ و التي درست من طرف الأنثربولوجیین، فإن نظریة روني جیرار تبقى محدودة. و قد بینت كیف أن تلك الأبحاث الأنثربولوجیة تفند الفرضیة القائلة بالعنف
( البدائي المعمم، و كیف أنھا ترى أن لا أساس لھا من الصحة. ( 11
الجانب الثاني: ھو دفاع النظریة عن وجود العنف وحضوره في جمیع المجتمعات والثقافات. و ھذا، طبعا، أمر بدیھي. و یمكن تلخیص أطروحة روني جیرار، على ھذا
المستوى، كما یلي: یسود في البدایة، داخل الجماعة عنف معمم ودائم، لھذا فھو من صنف العنف الداخلي، أي ذلك العنف الذي یسكن في النفسیة الفردیة و الجماعیة. ثم
تظھر عادة التضحیة بشخص ( عادة ما یكون أجنبیا أو غریبا أو أسیرا) تنسب لھ الجماعة جمیع المساوئ والشرور، و جمیع الخروقات التي یعرفھا المجتمع، و التي یعتقد
الناس أنھا تھدد كیان المجتمع ( عبر تھدیدھا للمعتقدات والممارسات المتداولة والمقدسة)، إضافة إلى ھذه الخروقات، قد تلصق الجماعة بذلك الشخص الكوارث والأھوال،
كالأمراض والمجاعات، و الفیاضانات، و الزلازل، و الانھزامات الخ. فیطرد المجتمع ذلك الشخص من المجتمع وینفیھ أو یقتلھ...
یتعود الناس لا شعوریا على ھذه "اللعبة" تعودا تاما، و یتم، في زمان ما، استبدال الضحیة البشریة بأضحیة من الحیوان المدجن، و ھو عند روني جیرار "كبش
الفداء" أو الذبیحة
أو كما یسمیھا جیرار الأضحیة ویجب التمییز، ھنا، بین "لعبة" الأضحیة الموجودة والشائعة سواء في الثقافات القدیمة أو الجدیدة، وبین رصد تكوینھا كما تم و كما یأتي بھ
( جیرار. و ھو ما یطرح إشكالات و تخمینات یصعب على الباحث قبولھا كما تطرقت إلى ذلك. ( 12
الجانب الثالث: وھو الخاص بكیفیة تعامل الثقافات مع مشكل العنف. وھنا نتفق مع جیرار على أن الدین ھو المؤسسة الأولى ذات الأھمیة القصوى في ھذا المجال.
فالدین ھو أساسا تعامل مع العنف، حیث یوجھھ إلى الأضحیة أو القربان، وفي نفس الوقت یجعل الإنسان یعترف بذنب العنف ویخترع مؤسسات تبعده منھ (العنف). وینبع ھذا
الطرح من أطروحات فروید. و یذھب جیرار إلى أن ھناك "لعبة" لأن المؤسسة الدینیة التي تلعب الدور الأھم في ھذا المجال ھي مؤسسة الأضحیة وتقدیم الأضحیة استعمال
للعنف، و لكنھ، في نفس الوقت، "یلعب بھ" كما نقول في العامیة المغربیة، فیعدمھ ویرسم طرقا أخرى للقوة الكامنة فیھ، غیر الطرق التي تؤدي إلى تخریب الثقافة
والمجتمع. و یتعرف جیرار في المسرح التراجیدي وفنون أدبیة أخرى على نفس الدینامیة التي تعرف علیھا في التضحیة بالأضحیة الخ. لكن ھناك عدة مشاكل یخلقھا ھذا
( الطرح. ( 13
أما مفھوم العنف عند (ھوبز) فیرتبط بما یطلق علیھ (حرب الجمیع ضد الجمیع)، وھو یزعم ان ھذه الحرب، التي تعكس الحالة المعیاریة للطبیعة البشریة، تساعدنا
على فھم تعبیر (العنف) على حقیقتھ، ولكي یدعم (حتمیتھ) ھذه، فھو یضع فرضیات أربعة یقترحھا لتفسیر العنف. ویستشف من ھذه الفرضیات، الطابع السیكولوجي في
نموذج ( ھوبز)، إذ یمكن للباحث أن یتلمس ملامح السیكولوجیا، في مفھوم العنف عند ھذا الفیلسوف. وھذه الفرضیات ھي كالآتي :
الفرضیة الأولى: أن سلوك الناس إنما تحركھ مجموعة من الرغبات تكون مشتركة بینھم جمیعا.
الفرضیة الثانیة: یمكن أن توصف ھذه الرغبات، بأنھا رغبات (مستبدة) ولا ھوادة فیھا، وھي إما أن تظھر كبدائل عن (حاجات بیولوجیة) جامحة، أو أن عملیات إشباعھا
تعمل على تجدیدھا تلقائیا.
الفرضیة الثالثة: ان مصادر إشباع ھذه الرغبات (الحاجات)، ترتبط عادة وفي الغالب بموارد (محدودة)، بما یجعل فرص إشباعھا غیر متاحة للجمیع وبشكل مطلق.
الفرضیة الرابعة: ان حالتي (الرغبة/الحاجة) و(قلة الموارد/الندرة)، تفرض تنافسا دائما بین الناس، بما یجعل (القوة) ضرورة" كبعد ثالث لحسم نتیجة التنافس، حیث ان
ھذه القوة، غیر قابلة للاحتكار من طرف ما، وبما یكفي لفرض ھمینتھ على الطرف الاخر بصورة (دائمة)، فان عدم استقرار (التنافس بین الناس)، سیكون ھو الحالة
( المرجحة، بما یعرض كل واحد منھم لمخاطر حرب الجمیع ضد الجمیع. ( 14
بینما وجد (ماركس) أن العنف ھو سمة للحالة الاجتماعیة التي أفسدھا الاستئثار بوسائل الإنتاج، فالتنافس بین الناس ذو أصل اجتماعي، یتعلق بملكیة وسائل الإنتاج، لذلك
( فإن الصراع لیس بین الجمیع ضد الجمیع كما ذھب ھوبز وإنما ھو صراع بین الطبقات ( 15
وجدیر بالذكر إن اھتمام (ماركس) قد انصب على العنف الثوري والذي یقع بین الأنظمة الاجتماعیة والحضاریة، وخلال تناولھ للصراع ربط (ماركس) بین كل من
التغیر والصراع والعنف مؤكداً الدور الإیجابي الذي یؤدیھ العنف في حركة التاریخ، فالصراع یشیر إلى وجود خلل في البنى الاجتماعیة، أما العنف فھو شرط أساسي لتجاوز
ھذا الخلل ولإحداث التغییر فھو (مولد كل مجتمع قدیم یحمل في طیاتھ مجتمعاً جدیداً كما أنھ الأداة التي تحل بواسطتھا الحركة الاجتماعیة مكانھا وتحطم أشكالاً سیاسیة جامدة
( ومیتة) ( 16
إن النموذج الماركسي، رغم طرحھ بنیة مشابھة لما تطرحھ نماذج (ھوبز) و (فروید)، على الأقل فیما یتعلق بالمراحل البدائیة (ما قبل التاریخ)، حیث (الندرة)
و(الحاجات) المتجانسة و(التنافس) الجامح، ھي نفسھا عند ماركس كما عند الأخرین، إلا أن (ماركس) یطرح نموذجھ بقدر عال من التفاؤل وھو ینأى بھ عن حتمیتھ. إذ أن
(العنف) عنده لیس من صلب الطبیعة ومفروغ منھ، وعلى العكس من ھذا فھو عنده سمة"، تفرضھا الحالة (الاجتماعیة) التي أفسدھا (الاستئثار بوسائل الإنتاج). وھكذا فان
(التنافس) تفرضھ محددات اجتماعیة، یمكن السیطرة علیھا عندما یتم تغییر (علاقات الإنتاج)، وحیث أن التنا
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى